فصل: تفسير الآيات (24- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (15):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} [15].
{وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء} أي: أهل مكة: {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} أي: أخذة واحدة بعذاب بئيس. يقال: صاح الزمان بهم، إذا أهلكوا. كما قال:
صَاْحَ الزَّمَاْنُ بِآَلِ بَرْمَكَ صَيْحَةً ** خَرُّوْا لِشِدَّتِهَاْ عَلَى الْأَذْقَاْنِ

وأصله من الغارة إذا عافصت القوم فوقعت الصيحة فيهم: {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} أي: من توقف مقدار فواق، وهو ما بين الحلبتين، أو رجوع وترداد، فإنه فيه يرجع اللبن إلى الضرع فـ: {فواق}، إما بحذف مضافين، أو مجاز مرسل بذكر الملزوم وإرادة لازمه. وقرئ بالضم، وهما لغتان. وقيل: المفتوح اسم مصدر من: أفاق المريض، إفاقة وفاقة، إذا رجع إلى الصحة، والمضموم اسم ساعة رجوع اللبن للضرع.

.تفسير الآية رقم (16):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [16].
{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} أي: نصيبناً من العذاب الذي وعدته، كقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج: 47] و[العنكبوت: 53 و54]، {قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} أي: الجزاء، وقولهم ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية، كما قص عنهم نظائره في عدة آيات.

.تفسير الآية رقم (17):

القول في تأويل قوله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [17].
{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي: فقد وعدت بالنصر، والظفر، والملك، والتأييد، كما أوتي داود عليه السلام، مما سارت به الأمثال، ولذا قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} أي: القوة، أي: الاجتهاد في أداء الأمانة، والتشدد في القيام بالدعوة، ومجانبة إظهار الضعف والوهن: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي: رجّاع إليه تعالى بالإنابة، والخشية، والعبادة، والصيام.

.تفسير الآيات (18- 19):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} [18- 19].
{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} أي: تبعاً لتسبيحه: {بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} أي: مجموعة عنده يسبحن معه: {كُلٌّ لَّهُ} أي: لله تعالى: {أَوَّابٌ} أي: مطيع منقاد، يرجع بتسبيحه وتقديسه إليه.
قال ابن كثير: أي: أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار. كما قال عز وجل: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10]، وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه، إذا مر به الطير وهو سابح في الهواء، فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور لا يستطيع الذهاب. بل يقف في الهواء ويسبح معه، وتجيبه الجبال الشامخات ترجّع معه، وتسبح تبعاً له. انتهى. أي: بأن خلق فيها حياةً ونطقاً، أو كان له عليه السلام من شدة صوته الحسن دوي في الجبال، وحنين من الطيور إليه، وترجيع، وقد عهد من الطير القمري أنه ينتظر سكتة المصوّت، والقارئ بصوت حسن، أو المنشد، فيجيبه، والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (20):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [20].
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} أي: قويناه بوفرة العَدد والعُدد، ونفوذ السلطة، وإمداده بالتأييد والنصر: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} أي: النبوة، أو الكلام المحكم المتضمن للمواعظ والأمثال، والحض على الأداب، ومكارم الأخلاق، وكان زبوره عليه السلام، كله حكماً غرراً: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} أي: فصل الخصام بتمييز الحق من الباطل، ورفع الشبه، وإقامة الدلائل، وكان يقيم بذلك العدل الجالب محبة الخلائق، ولا يخالفه أحد من أقاربه، ولا من الأجانب.
ثم ذكر تعالى من حكمته عليه السلام وقضائه الفصل، وشدة خوفه وخشيته مع ذلك، ما قصه بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (21):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [21].
{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} أي: ولجوه. والمحراب مقدم كل بيت وأشرفه.

.تفسير الآية رقم (22):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ} [22].
{إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ} أي: منا. فلسنا فاتكين وإنما نحن {خَصْمَانِ} أي: شخصان متخاصمان تحاكمنا إليك: {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} أي: تعدى: {فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} أي: بما يطابق أمر الله: {وَلَا تُشْطِطْ} أي: ولا تبعد عن الحق أو تجاوزه: {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ} أي: بحيث لا تميل عن الحق أصلاً.

.تفسير الآية رقم (23):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [23].
{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} أي: أنثى من الضأن: {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} أي: فلم ينظر إلى غناه عنها، ولا إلى افتقاري إليها، بل أراد التغلب عليّ: {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} أي: ملكنيها، بمعنى اجعلني كافلها كما أكفل ما تحت يدي. أو بمعنى اجعلها كفلي أي: نصيبي: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} أي: غلبني في المكالمة.

.تفسير الآيات (24- 25):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ} [24- 25].
{قال} أي داود {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} أي طلب نعجتك التي أنت أحوج إليها ليضمها {إِلَى نِعَاجِهِ} أي مع استغنائه عن هذا الضم {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} أي الإخوان الأصدعاء المتخالطين في شئونهم {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي بغى الأعداء مع أن من واجب حقهم النصفة على الأقل، إن لم يقوموا بفضيلة الإيثار {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي فإنهم لا يبغون {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} أي وهم قليل. و{ما} مزيدة للإبهام والتعجيب من قلتهم.
قال الشهاب: فيه مبالغة من وجوه: وصفهم بالقلة، وتنكير {قليل} وزيادة {ما} الإبهامية. والشيء إذا بولغ فيه كان مظنة للتعجب منه، فكأنه قيل: ما أقلهم.
وفي قضائه عليه السلام هذا، من الحكمة وفصل الخطاب ما يهيج الأفئدة ويقر عين المغبون. ذلك صدع بالحق أبلغ صدع فجهر بظلم خصمه وبغيه جهرا لا محاباة فيه ولا مواربة فأقر عين المظلوم. وعرف الباغي ظلمه وحيفه، وأن سيف العدل والإنصاف فوقه. ثم نفس عن قلب المظلوم البائس، وروح عن صدره بذكر ما عليه الأكثر من هذه الخلة- خلة البغي وعدم الإنصاف- مع الخلطة والخلة، ليتأسى ويتسلى كما قيل: إن التأسي روح كل حزين. ثم أكد الأمر بقلة القائمين بحقوق الأخوة، ممن آمن وعمل صالحا، فكيف بغيرهم؟ وكلها حكم وغرر ودرر، حقائق تنطبق علي أكثر هذا السواد الأعظم من الناس، الذين يدعون المحبة، والصداقة. ولعظم شأن حقوق المحبة أسهب في آدابها علماء الأخلاق، إسهابا نوعوا فيه الأبواب، ولونو فيه الفصول. ومع ذالك لا تزال الشكوى عامة. وقد امتلأت من منظومها ومنثورها كتب الأدب، كما لا يخفى على من له إلمام به. وبالله التوفيق {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} أي ابتليناه بتلك الحكومة {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} أي ما استغفر منه {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} أي لقربا {وَحُسْنَ مَآَبٍ} أي مرجعا حسنا وكرامة في الآخرة.
تنبيهات:
الأول- للمفسرين في هذا النبأ أقوال عديدة ووجوه متنوعة. مرجعها إلى مذهبين: مذهب من يرى أنها تشير تعريضا إلى وزر ألم به داود عليه السلام ثم غفر له. ومذهب من يرى أنها حكومة في خصمين لا إشعار له بذالك. فممن ذهب إلى الأول ابن جرير. فإنه قال: هذا مثل ضربه الخصم المتسورون على داود محرابه. وذلك أن داود كانت له، فيما قيل، تسع وتسعون امرأة. وكانت للرجل الذي أغزاه حتى قتل امرأة واحدة. فلما قتل نكح، فيما ذكر، داود امرأته. ثم لما قضى للخصمين بما قضى، علم أنه ابتلي. فسأل غفران ذنبه وخر ساجدا لله وأناب إلى رضا ربه، وتاب من خطيئته. هذا ما قاله ابن جرير. ثم أسند قصته مطولة من روايات عن ابن عباس والسدي وعطاء والحسن وقتادة ووهب ومجاهد. ومن طريق عن أنس مرفوعا. ويشبه سياق بعضها ما ذكر في التوراة المتداولة الآن.
قال السيوطي في الإكليل: القصة التي يحكونها في شأن المرأة، وأنها أعجبته، وأنه أرسل زوجها مع البعث حتى قتل، أخرجها ابن أبي حاتم من حديث أنس مرفوعا. وفي إسناده ابن لهيعة، وحاله معروف، عن ابن صخر عن يزيد الرقاشي وهو ضعيف. وأخرجها من حديث ابن عباس موقوفا. انتهى.
أقول: أما المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فلم يأت من طريق صحيح.، أما الموقوف من ذلك على الصحب والأتباع رضي الله عنهم، فمعولهم في ذلك ما ذكر في التوراة من هذا النبأ، أو الثقة بمن حكي عنها. وينبني على ذلك ذهابهم إلى تجويز مثل هذا على الأنبياء. وقد ذهبت طائفة إلى تجويز ما عدا الكذب في التبليغ. كما فصل في مطولات الكلام.
قال ابن حزم رحمه الله: وهو قول الكرامية من المرجئة، وابن الطيب الباقلاني من الأشعرية، ومن اتبعه، وهو قول اليهود والنصارى. ثم رد هذا القول، رحمه الله، ردا متينا.
وأما المذهب الثاني، فهو ما جزم به ابن حزم في الفصل وعبارته: ما حكاه تعالى عن داود عليه السلام قول صادق صحيح، لا يدل على شيء مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بالخرافات ولدها اليهود. وإنما كان ذاك الخصم قوما من بني آدم، بال شك، متخصمين في نعاج من الغنم على الحقيقة بينهم. بغى أحدهم على الآخر على نص الآية. ومن قال إنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء، فقد كذب على الله عز وجل، وقوله ما لم يقل، وزاد في القرآن ما ليس فيه، وكذب الله عز وجل وأقر على نفسه الخبيثة، أنه كذب الملائكة. لأن الله تعالى يقول {وهل أتاك نبؤا الخصم} فقال هو: لم يكونوا قط خصمين، ولا بغى بعضهم على بعض، ولا كان قط لأحدهما تسع وتسعون نعجة، ولا كان للآخر نعجة واحدة، ولا قال له أكفلنيها. فأعجبوا. لم يقحمون فيه الباطل أنفسهم؟ ونعوذ بالله من الخذلان. ثم كل ذلك بلا دليل، بل الدعوى المجردة. وتالله! إن كل امرئ منا ليصون نفسه وجاره المستور عن أن يتعشق امرأة جاره، ثم يعرض زوجها للقتل عمدا، ليتزوجها. وعن أن يترك صلاته لطائر يراه. هذه أفعال السفهاء المتهوكين الفساق المتمردين. لا أفعال أهل البر والتقوى. فكيف برسول الله داود عليه السلام الذي أوحى إليه كتابه وأجرى على لسانه كلامه؟ لقد نزهه الله عز وجل عن أن يمر مثل هذا الفحش بباله. فكيف أن يستضيف إلى أفعاله؟ وأما استغفاره وخروره ساجداً، ومغفرة الله له، فالأنبياء عليهم السلام أولى الناس بهذه الأفعال الكريمة. والاستغفار فعل خير لا ينكر من ملك ولامن نبي. ولا من مذنب ولا من غير مذنب. فالنبي يستغفر الله لمذنبي أهل الأرض. والملائكة كما قال الله تعالى {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}. وأما قوله تعالى عن داود عليه السلام {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} فقد ظن داود عليه السلام أن يكون ما آتاه الله عز وجل من سعة الملك العظيم فتنة. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في أن يثبت الله قلبه على دينه. فاستغفر الله تعالى من هذا الظن، فغفر الله تعالى له هذا الظن. إذ لم يكن ما آتاه الله تعالى من ذلك فتنة. انتهى كلام ابن حزم، وهو وقوف على ظاهر الآية، مجردًا عن إشارة وإيماء.
وقال البرهان البقاعي في تفسيره: وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود.
ثم قال: وأخبرني بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود عليه السلام لأن عيسى عليه السلام من ذريته، ليجدوا سبيلا إلى الطعن فيه. انتهى.
ثم قال: وقوله تعالى {فَغَفَرْنَا لَهُ َذَلِكَ} أي الوقوع في الحديث عن إسناد الظلم إلى أحد بدون سماع لكلامه. وهذه الدعوى تدريب لداود عليه السلام في الأحكام. وذكرها للنبي صلى الله عليه وسلم تدريب له في الأناة في جميع أموره على الدوام. ولما ذكر هذا، ربما أوهم شيئا في مقامه صلى الله عليه وسلم، فدفعه بقوله {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ} فالقصة لم يجر ذكرها إلا للترقية في رتب الكمال. وأول دليل على ما ذكرته، أن هذه الفتنة إنما هي بالتدريب في الكحم، لا بامرآة ولا غيرها. وأن ما ذكروه من قصة المرأة باطل وإن اشتهر. فكم من باطل مشهور، ومذكور، هو عين الزور. انتهى.
وقال ابن كثير: قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات. ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه. ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده، لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه. ويزيد، وإن كان من الصالحين، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة. الأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة، وأن يرد علمها إلى الله عز وجل. فإن القرآن حق، وما تضمن فهو حق أيضا. انتهى.
وقال القاضي عياص في الشفا: وأما قصة داود عليه السلام، فلا يجب أن يلتفت إلى ما سطره فيها الإخباريون على أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا، ونقله بعض المفسرين ولم ينص الله على شيء من ذلك، ولا ورد في حديث صحيح. والذي نص الله عليه قوله {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} وقوله فيه {أوَّابٌ} فمعنى {فتنَّاهُ} أي اختبرناه. و{أوَّابٌ} قال قتادة: مطيع. وهذا التفسير أولى. قال ابن عباس وابن مسعود: ما زاد داود على أن قال للرجل: انزل عن امرأتك وأكفلنيها. فعاتبه الله على ذلك ونبهه عليه. وأنكر عليه شغله بالدنيا. وهذا هو الذي ينبغي أي يعول عليه من أمره. وقد قيل خطبها على خطبته، وقيل: بل أحب بقلبه أن يستشهد. وحكى السمرقندي أن ذنبه الذي استغفر منه قوله {لَقَدْ ظَلَمَكَ} فظلمه بقول خصمه. وقيل: بل لما خشيه على نفسه، وظن من الفتنة بما بسط له من الملك والدنيا. وإلى نفى ما أضيف في الأخبار إلى داود من ذلك ذهب أحمد بن نصر وأبو تمام، وغيرهما من المحققين. قال الداودي: ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت. ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم. وقيل: إن الخصمين اللذين اختصما إليه، رجلان في نتاج غنم على ظاهر الآية. وقيل: بل لما خشي على نفسه وظن من الفتنة لما بسط له من الملك والدنيا. انتهى.
وقال ابن القيم في أواخر كتابه الجواب الكافي في مباحث العشق: وقد أرشد صلى الله عليه وسلم المتحابين إلى النكاح. كما في سنن ابن ماجه مرفوعًا: لم ير للمتحابَّين مثل النكاح. ونكاحه لمعشوقه هو دواء العشق الذي جعله الله دواءه شرعا وقدرا. وبه تواوى نبي الله داود عليه السلام ولم يرتكب نبي الله محرما. وإنما تزوج المرأة وضمها إلى نسائه لمحبته لها. وكانت توبته بحسب منزلته عند الله وعلو مرتبته. ولا يليق بنا المزيد على هذا. انتهى.
وهذا منه تسليم ببعض القصة لا تمامها. وهو من الأوال فيها.
وأما دعوى بعضهم أن التوراة تعد داود ملكا حكيما، لا نبيا، بدليل ذكره في أسفار الملوك منها، وما فيها من أنه بعث إليه نبي يقال له قاشان، ضرب له المثل المذكور فدعوى مردودة من وجوه:
منها أن الاستدلال بالتوراة التي بين أيديهم في إهباتٍ أو نفي لا يعول عليه. كيف لا؟ وقد أوتينا بيضاء نقية محفوظة من التغيير والتبديل بحمده تعالى. ومنها أن نبوة داود عليه السلام لا خلاف فيها عند المسلمين، فلا عبرة بخلاف غيرهم.
ومنها أنه لا مانع أن تجتمع النبوة والملك لمن أراده الله واصطفاه. وقد فعل ذلك بداود وسليمان عليهما السلام.
ومنها أنه لا حاجة في كتابنا الكريم أن يتمم بما جاء في غيره، أو يحاول رده إلى سواه من الكتب، أو هي إليه، لاستغنائه بنفسه. بل وكونه مهيمنا على سائر الكتب، كما أخبر الله تعالى عنه. فليتأمل ذلك. والله أعلم.
وقد روي أن عمر بن عبد العزيز حدًّث بنبأ داود على ما يرويه القصاص، وعنده رجل من أهل الحق. فكذب المحدث به، وقال: إن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها سترا على نبيه، فما ينبغي إظهارها عليه. فقال عمر: لسماعي هذا الكلام، أحب إلى مما طلعت عليه الشمس. نقله الزمخشري.
قال الناصر في الانتصاف: وقد التزم المحققون من أئمتنا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، داود وغيره، منزهون من الوقوع في صغائر الذنوب، مبرءون من ذلك، والتمسوا المحامل الصحيحة لأمثال هذه القصة. وهذا هو الحق الأبلج، والسبيل الأبهج، إن شاء الله تعالى. انتهى.
التنبيه الثاني: قال ابن الفرس: في هذه القصة دليل على جواز القضاء في المسجد- أي لظاهر المحراب. إلا أنه ليس نصًّا في محراب المسجد- والتلطف في رد الإنسان عن المكروه صنعه. وأنه لا يؤاخذ بعنف ما أمكن. وجواز المعاريض من القول.
قال الزمخشري: وإنما جاءت على طريقة التمثيل والتعريض، دون التصريح، لكونها أبلغ في التوبيخ. من قبل أن المتأمل إذا أداه إلى الشعور بالعرض به، كان أوقع في نفسه وأشد تمكنا من قلبه، وأعظم أثرا فيه، وأجلب لاحتشامه وحيائه، وأدعى إلى التنبيه على الخطأ فيه، من أن يباده به صريحا، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة. ألا ترى إلى الحكماء؟ كيف أوصوا في سياسة الولد، إذا وجدت منه منة منكرة، بأن يعرض له بإنكارها عليه، ولا يصرح. وأن تحكى له حكاية ملاحظة لحاله، إذا تأملها استسمج حال صاحب الحكاية، فاستسمج حال نفسه. وذلك أزجر له. لأنه ينصب ذلك مثالا لحاله، ومقياسا لشأنه. فتصور قبح ما وجد منه بصورة مكشوفة. مع أنه أصون لما بين الوالد والولد من حجاب الحشمة.
الثالث: قال ابن مسعود في قوله تعالى {إنَّ هَذَا أَخِي}: أي على ديني. أخرجه ابن أبي حاتم. فقيه جواز إطلاق الأخ على غير المناسب. واستدل بقوله تعالى {وَخَرَّ رَاكِعًا} من أجاز التعويض عن سجود التلاوة بركوع. والأكثرون على أن الركوع هنا مجاز مرسل، عن السجود. لأنه لإفضائه إليه، جعل كالسبب، ثم تجوز به عنه. أو هو استعارة له، لمشابهته له في الانحناء والخضوع.
الخامس: قال ابن كثير: اختلف الأئمة في سجدة (ص) هل هي من عزائم السجود؟ على قولين: أحدهما أنها ليست من العزاغئم، بل هي سجدة شكر. لما روى عن ابن عباس رشي الله عنهما أنه قال: إنها ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها، رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن. وعنه أنه قال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في (ص) وقال: سجدها داود عليه الصلاة والسلام توبة، ونسجدها شكرا،» تفرد به النسائي وعن أبي سعيد الخدري رشي الله عنه قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر (ص) فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه. فلما كان يوم آخر قرأها. فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود. فقال صلى الله عليه وسلم:إنملا هي توبة نبي. ولكن رأيتكم تشزنتم، فنزل وسجد». تفرد أبو داود. وإسناده على شرط الصحيح.